
منذ سنوات بعيدة لجأ الكثير من العلماء والعُبّاد لاعتزال الناس وعبادة الله في المناطق النائية، وفي ذلك الوقت كان جبل المقطم موقعًا مثاليًا لاعتزال التشويش وطلب الوصول للحق جل وعلا، فاختلط تسبيح ذرات رمال الجبل في تناغم مع همهمات الذكر ودعاء استغاثة الأحبة، الذين شاقهم الابتعاد عن الله، فاختاروا أن يتفرغوا لعبادته بعد أن عرفوا جمال قدره بطلب العلم.
ومن المقامات التي ألحق بها مساجد للعلماء والزهاد، سيدي عمر بن الفارض والسادة الوفائية (تلاميذ الشيخ علي وفا)، والإمام الشاطبي، كلهم اختاروا جبل المقطم ليسكنوا فيه ويكون نهاية رحلتهم الطويلة فيدفنوا فيه أيضًا.
ومن هؤلاء العلماء العباد الزهاد أيضًا أحمد بن عطاء الله السكندري، وهو كما قال عنه الإمام أحمد زروق: «الشيخ الإمام العالم العامل العارف بالله المحقق الكامل أبوالفضل تاج الدين وترجمان العارفين أحمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد بن عيسى بن الحسيني بن عطاء الله الجذامي نسبًا، المالكي مذهبًا، الشاذلي طريقة، الإسكندري دارًا، القاهري مزارًا، وتوفي بالقاهرة سنة سبعمائة وتسع في جمادى الآخر، وكان أعجوبة في زمانه في التصوف وغيره»، حسبما جاء في كتاب «لطائف المنن» لـ ابن عطاء الله السكندري من صفحة 7 لـ 10.
ابن عطاء الله مؤلف «الحكم العطائية ولطائف المنن»، وكلها كتب مشهورة في التصوف تربي النفس وتزكيها، وله مواقف مشهورة في الرد على الفكر الوهابي، مثل حكم التوسل وزيارة قبور الصالحين مع الشيخ بن تيمية.
يقع مسجده على طريق الأوتوستراد، آخر يمين قبل كوبري التونسي اتجاه المعادي – مدينة نصر، في مدخل صغير لشارع واسع تستقبلك القبور على الجانبين لترى في آخر هذا الشارع غير المسكون مئذنة وجامع سيدي بن عطاء الله السكندري، بجوارهما بعض الأشجار الخضراء التي تكسر اللون الأصفر والرمادي لجبل المقطم خلف المسجد.
اخلع نفسك قبل أن تدخل من أبواب السكينة
منذ أن تطأ قدماك بوابة المسجد الخضراء وتصعد بعض الدرجات، ستبدأ رحلة تترك فيها نفسك وأشغالك لتنعم بحضرة عالم صوفي جليل تتلمذ على يد المرسي أبوالعباس في الإسكندرية، تلميذ القطب أبوالحسن الشاذلي، ثم ربى الكثير من المريدين والتلاميذ العارفين المخلصين، فبعد صعود الدرج ستلاحظ المئذنة المنفصلة عن المسجد وتخلع حذاءك وتترك معه تفكيرك في الدنيا، وإعلاءك لقدر نفسك، ثم تخطو على سجادة حمراء يواجهك بعدها باب خشبي مفرغ بزجاج شفاف.
يبهرك السقف المزخرف بنقوش إسلامية بدرجات الأصفر والأخضر، مزينة ببعض الحكم العطائية التي ينيرها ضوء الشمس المنعكس من نوافذ المسجد المربعة، وتتدلى نجفة عصرية منقوش عليها «لا إله إلا الله محمد رسول الله».
على يمينك ستجد بابًا لقاعة شيخ الأزهر الأسبق عبدالحليم محمود، والتي دفن فيها شخص آخر بَنى المسجد لكنه يحمل نفس اسم شيخ الأزهر الأسبق، الحاج عبدالحليم محمود مجاهد، وقد يلتبس الأمر على البعض لتشابه الأسماء وعلاقتهم القوية ببعضهما إلا أن المعروف أن شيخ الأزهر الأسبق دفن ببلدته بلبيس بالشرقية.
يروي عم محمد، أحد خادمي المسجد، لـ«المصري لايت» قصة المسجد، قائلًا: «ما كان ليشيد هذا الصرح لولا أن الحج عبدالحليم حلم 3 مرات بسيدي الشيخ أحمد بن عطاء الله، وهو يطلب منه بناء المسجد وظل يُكذّب نفسه حتى في آخر مرة رفع عنه غطاءه، فما كان بيديه سوى أن يبنيه عام 1967 وانتهى منه في 1973، وحدد حوالي مبلغ 80 ألفًا ليبني به المسجد، كما كان يحتفظ بالمبلغ في خزانة منزله وظل يسحب منه لبناء المسجد بلا مراقبة».
يضيف خادم المسجد: «ما إن انتهى من البناء تعجب من أن المبلغ لم ينفد مع استمرار سحبه منه، وحين فتح الخزانة وجد المبلغ كما هو وكأنه لم يصرف منه، حينها استشار صديقه شيخ الأزهر الأسبق عبدالحليم محمود، فقال له أأخبرت أحدًا؟ فقال نعم، فقال: لو لم تحصه ولم تخبر أحدًا لظللت تسحب منه ولا ينفد».
واجب الضيافة «ينسون المحبة»
على يسارك ستجد من يقدمون الخدمة بالمسجد، يستقبلونك ثم يقدمون إليك واجب ضيافتك في رحاب سيدي بن عطاء الله، «شاي أو ينسون» لزوار صاحب المقام.
ومن الغريب أن سيدي بن عطاء الله كان من المنكرين على التصوف وغير مقتنع بمنهجهم، وقص في كتابه «لطائف المنن» كيف تغيرت حياته حين قرر أن يذهب ليرى الشيخ المرسي أبوالعباس، ويسمع كلامه ليعرف إذا كان حقًا من أهل الله العارفين المتحققين كما يقول تلاميذه أم لا، والذين لهم علامات بارزة.
كان حينها الشيخ العلامة أبوالمرسي يتكلم في الأنفاس ودرجات السالكين إلى الله تعالى، فقال، حسب كتاب «لطائف المنن»: «الأول إسلام: وهو درجة الانقياد والطاعة والقيام بمراسم الشريعة، وثانيها الإيمان: وهو مقام معرفة حقيقة الشرع بمعرفة لوازم العبودية، وثالثها الإحسان: وهو مقام شهود الحق تعالى في القلب، وإن شئت قلت: الأول عبادة، والثاني عبودية، والثالث عبودة، وإن شئت قلت: الأول شريعة، والثاني حقيقة، والثالث تحقق، فما زال يقول وإن شئت قلت وإن شئت قلت إلى أن بهر عقلي وسلب لبي، فعلمت أن الرجل يغترف من فيض بحر إلهي ومدد رباني: فأذهب الله ما كان عندي».
قبل أن تدخل المقام ستجد لافتة كبيرة باسم ابن عطاء الله السكندري، ثم لوحة أخرى فيها سيرة حضرته متوفر فيها معلومات عن ميلاده ووفاته وعلومه وكتبه، ويحب بعض المترددين أن يدخلوا على علمائهم بالأدب فيستأذنوا من على الباب ويطرقوه بضع مرات أولًا، ثم يقولوا: «السلام عليكم سيدي أحمد بن عطاء الله»، ويقرأون الفاتحة ثم بعض الصور القصيرة أو بعض أورادهم، سواء من تسبيح أو أذكار أو آيات قرآنية.
ومن ضمن المواقف المشهورة لسيدي بن عطاء الله مع الشيخ ابن تيمية، كما ورد في كتاب «ابن تيمية الفقيه المعذب» لعبدالرحمن الشرقاوي، مناظرة كلامية بينه وبين الشيخ ابن تيمية، والتي بدأت بالسلام وذكر محاسن كل منهما للآخر، ثم رد ابن عطاء الله للشيخ ابن تيمية عن اتهامه المتصوفة بالشرك، وقال له: «أصلحكَ الله يا فقيه، أما فهمك أن الاستغاثة بغير الله فهي شرك، فمَن مِن المسلمين الذين يؤمنون بالله ورسوله يَحسب أن غيره -تعالى- يَقضي ويُقدِّر ويُثيب ويُعاقِب؟ إنما هي ألفاظ لا تؤخذ على ظاهرها، ولا خوف مِن الشرك لنسدَّ إليه الذريعة، فكل مَن استغاث الرسول فهو إنما يَستشفِع به عند الله مثلما تقول أنت: أشبعَني الطعام، فهل الطعام هو الذي أشبعك أم أن الله – تعالى – هو الذي أشبعك؟ أما تحريمك الاستغاثة لأنها ذريعة إلى الشرك، فإنك كمَن أفتى بتحريم العِنَب لأنه ذريعة إلى الخمر، ويخصي الذكور غير المتزوِّجين سدًّا للذريعة إلى الزنى».
طلب العلم لا يكون بترك العمل
بني المقام من الخشب على شكل مربع خشبي تزينه بعض الآيات القرآنية في أركانه أشبه باللافتات، وبداخله مستطيل بمساحة جسد المتوفى بالتقريب، ثم وضعت عمامة على دائرة قطنية لإعلام الناس بأن رأس الشيخ في هذا المكان وقدماه في الناحية الأخرى، وتتغير العمامة كل فترة وتعطر، كما يوضع فوق المستطيل الصغير مفرش أخضر عليه بعض الآيات القرآنية وبعض المصاحف والسبح.
وفي سقف المقام توجد لمبة خضراء ينعكس ضوؤها على زجاج المقام الشفاف لتضفي حالة فريدة على المكان، فالمقام مقسوم نصف خشبي مفرغ ونصف من ألواح زجاجية، منها لوحان بهما دائرة صغيرة مفتوحة ليستطيع المارون أن يشموا رائحة العطر التي في المقام ويتصدقوا بما يريدون أو يوفون بنذورهم، كما يتردد بعض المحبين ويرشون العطر على المقام أو يوزعون بعض القرص ثم يرحلون.
يقص سيدي بن عطاء الله في مقدمة كتابه «لطائف المنن» كيف استقبله شيخه المرسي أبوالعباس بعد أول لقاء دار بينهما حتى استحى منه ولم يقل له سوى أنه يحبه وقص عليه ما يشغله من هموم، فما كان رد المرسي أبوالعباس سوى أن قال له: «أحوال العبد أربع لا خامس لها: النعمة والبلية والطاعة والمعصية، فإن كنت في نعمة فمقتضى الحق منك الشكر وإن كنت في بلية فمقتضى الحق منك وجود الاستغفار»، ثم سأله بعد ذلك الشيخ عن حاله، فقال له إن همه قد زال، ثم بشره شيخه وقال له: «الزم فوالله لئن لزمت لتكونن مفتيا في المذهبين، في علوم الظاهر وحقائق الباطن».
اجعل الدنيا في يدك لا في قلبك
يروي سيدي بن عطاء الله أنه سمع بعض الطلبة يقولون إنه «من يصحب المشايخ مثله ويسلك طريق التصوف لا يفلح في العلوم الظاهرة مثل الفقه»، فحزن لذلك لما كان لجده من مكانة علمية في الفقه ولما تعلمه على مدار السنوات الماضية، وما إن دخل على شيخه حتى وجده يأكل من طعام فتمنى أن يعطيه لقمة منه، فسمع ما بخاطره وأعطاه اللقمة في فمه، ثم قال له: «نحن إذا صحبنا تاجر ما نقول له اترك تجارتك وتعال، أو صاحب صنعة ما نقول له اترك صنعتك وتعال، أو صاحب علم ما نقول له اترك طلبك وتعال، ولكن نقر كل أحد فيما أقامه الله فيه، وما قسم له على أيدينا فهو واصل إليه».
صاحب المقام يختار زواره
من العجيب أيضًا أن المسجد اتسم بصفات صاحبه، فنظرًا لبعده ووجوده في مكان نائي لا تجد الكثيرين فيه، بل إنه أحيانًا لا يصلي المغرب والعشاء فيه سوى العاملين بالمسجد، بل ولا تجد حضرات أيضًا كالتي تحدث في سيدنا الحسين أو السيدة زينب أو الصورة المعهودة من المجاذيب، لن تجد سوى محبين يقرأون القرآن أو يسبحون في صمت، يعلمون أن طريق التصوف طريق مجاهدة وبذل وليس تهربًا من الشريعة بل هو مبني على أصول القرآن والسنة لينقل من يطلبوا سلوكه من مقام الإسلام للإيمان ثم أخيرًا الإحسان، ويدعوا الله أن يحققهم بالمعاني التي علمها لمن تعرفوا عليه به مثل ابن عطاء الله الذي قضى عمره يربي ويعلم ويصحح الكثير من المفاهيم المغلوطة والتي نحتاجها حتى نرى جمال تدبير الله لنا في أقدارنا.





