
«لن أنسى أبدًا حجم الدمار، ولا الشعور بأن الموت كان أحيانًا على مسافة قريبة،لم نكن نرى بيوتنا..كنا نحمل كاميرتنا ونتنقل عبر الحواجز العسكرية والطرق الوعرة، جُملة جميعنا استمع إليها صباح اليوم بصوتها الدافيء المليء بالشجن، والآلم، والحزن، والأمل في فَلسطين حُرة، أخذتنا معها في شوارع البلدة المُحتلة، رأينا المنازل العتيقة، والتاريخ القديم، رأينا الحرب والدمار، سمعنا صوت الرصاص، وشممنا رائحة الموت.. واليوم نودع المراسلة الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، التي قضت سنوات عُمرها في تغطية القضية الفلسطينية، مصوبة كاميرتها نحو قوات الإحتلال، وسلاحها كلمتها الحُرة التي قُبلت برصاص حى أفقدها حياتها في لحظة.
الأربعاء، الحادي عشر من مايو، الساعة السادسة صباحًا، خرجت شيرين في مُهمتها المعتادة بصحبة مجموعة من الصحفيين لتغطية إقتحام الجيش الإسرائيلي لمخيم جنين بالضفة الغربية، كانت ترتدي الملابس الصحفية الكاملة-سترة واقية من الرصاص وخوذة-هي وكامل الفريق، وعلى الرغم من ذلك تم إطلاق النار عليهم، وبعد إصابة الصحفي علي السمودي برصاصة في ظهره، أصيبت شيرين بطلقة في رأسها، سقطت على الفور ولفظت الأنفاس الأخيرة من رحلتها البطولية.
وكأن العالم العربي صمت لساعات بعد خبر مقتل شيرين بين الحداد والذكرى والرثاء، هكذا أراد إعطاء المراسلة التي أفنت شبابها بين الدماء والقتل والرصاص حقها بوداع يليق بمسيرتها المهنية والإنسانية.
«لك شيرين شيرين .. اصحي يا شيرين»
« في اللحظات الصعبة تغلبت على الخوف، ورغم الخطر كنا نصر على مواصلة العمل»، لم تكن مجرد كلمات خرجت من فم شيرين وقلبها فقط، بل كانت واقعًا. ذهبت شيرين لتغطية الأحداث، ووصلت صباح باكر عند المخيم الرئيسي، وسارت مع زملائها وكان يتراوح عددهم من 4 إلى 7 أفراد، في شارع طويل ، بحثوا عن مكان الجيش الإسرائيلي والقناصة ورصدوا تحركاتهم، ثم توجهوا نحوهم بالملابس الصحفية حتى تراهم القوات، ومع رفع الكاميرات، تم تصويب النيران عليهم.
«علي أصيب، علي أصيب»، كانت آخر كلمات شيرين، بعدما تم تصويب النار علي زميلها الصحفي علي السمودي أولاً وأصيب بطلقة في ظهره، بعدها رخت شيرين لطلب العون، فأصيبت هي الأخرى بطلقة في الرأس.
علي السمودي:
قال السمودي في لقاء تلفزيوني: «وصلنا على المدخل كمجموعة عشان يشوفونا ويعرفوا اننا صحافة، وأنا وشيرين مشينا 20 متر والجيش شافنا، في العادة لو قالولنا ارجعوا أو ارحلوا هذة منطقة عسكرية بنرجع ولكنه ماقولوش شيء».
وأضاف: «احنا كنا حريصين على حياتنا مش عاوزين نموت، لأن الخبر والصورة مش أهم من حياتنا، ومكنش فيه بالمنطقة أى مُسلحين ولا حتى مدني بيضرب حجارة».
وأكمل: «لسه بفتح الكاميرا أصور وشيرين بجانبي طلعت الرصاصة الأولى لفيت بقول شيرين بيطخ علينا، الطلقة الثانية أصابت ظهري، والثالثة في رأس شيرين، وقفت سيارة في الشارع تأخذني على المستشفى، وسمعت صوت رصاص وأنا رايح».
وفي تأثر أنهى السمودي حديثه وهو مُصابًا على السرير في قسم الطوارئ بمستشفى ابن سينا التخصصي بمدينةجنين: «بعد شوية شوفتها مُمدة حدي في المستشفى.. شيرين استشهدت واللي صار جريمة والإحتلال اللي عنده فشل في منظومته الأمنية.. يعد العدة لعملية في مخيم جنين، وأراد أن ينتقم من الصحفيين لمنعهم من تغطية الأحداث وأرسل رصاصته، وقتلوا شيرين بدم بارد وبدون سبب، وهذا تأكيد أن الاحتلال دائمًا المجرم».
رفيقة النفس الأخير:
«لك شيرين شيرين .. اصحي يا شيرين».. كانت صرخات زملاء شيرين التي ظهرت في الفيديو المتداول لقتلها، والذي ظهر من خلاله صعوبة الوصول لإنقاذ شيرين بسبب استمرار إطلاق النار، وكانت شيرين نائمة على الأرض، وبجانبها شذا حنايشة، مراسلة، تصرخ من الخوف، حتى ظهر شاب استطاع إنقاذها، ثم حمل شيرين إلى السيارة.
وعلقت حنايشة في مداخلة مع قناة الجزيرة، بصوت مرتعش وحزين، ولكنه صامد: « 4صحفيين وقفنا في منطقة مكشوفة نرتدي الزى الصحفي بشكل كامل، شهدنا جنود الاحتلال ورفضنا التحرك بشكل منفرد، تحركنا كمجموعة، من باب الحماية أننا مجموعة صحفيين».
وأضافت: «تقدمنا للأمام وانتظر جيش الاحتلال وصولنا لمنطقة مغلقة، خلفنا الجدار وامامنا منطقة مفتوحة وبدأ اطلاق النار علينا، تم استهداف شيرين واطلاق النار عليها، الشباب لم يستطيعوا الوصول لإنقاذنا من الطلقات المصوبة نحونا، بأكد أن جيش الاحتلال تعمد إطلاق النار علينا، كان في هدف لمزيد من القتل والاغتيال سواء إلى أو لغيري».
الإيميل الأخير:
«اخترت الصحافة كى أكون قريبة من الإنسان ليس سهلًا ربما أن أغير الواقع.. لكنني على الأقل كنت قادرة على إيصال ذلك الصوت إلى العالم».. بهذا المبدأ عاشت وناضلت وماتت شيرين، التي أرسلت قبيل قتلها بدقائق «ميل »نشره زملائها ليؤكدوا على إصرارها على العمل لآخر نفس، وكان محتواه: «قوات الاحتلال تقتحم جنين وتحاصر منزلًا في حى الجابريات.. في الطريق إلى هناك، اوافيكم بخبر فور اتضاح الصورة».
شيرين نصري أنطون أبو عاقلة، ولدت في القدس، تخرجت من مدرسة راهبات الوردية في بيت حنينا في القدس، حصلت على درجة البكالوريوس من جامعة اليرموك في الأردن، وعملت في أكثر من قناة ووكالة صحافية.
اختارت أن تكون موجودة على الأرض، وتغطي الحرب وتنقل الواقع، ولم تغيب عن المشهد منذ عام 2002 عندما تعرضت الضفة الغربية لاجتياح، وقالت وقتها: «كنا نبيت في مستشفيات أو عند أشخاص لم نعرفهم، ورغم الخطر كنت نصر على مواصلة العمل».
من يومها حتى يومنا هذا استمرت شيرين في عملها، ونقل المشهد، وفي آخر منشورتها على توتير كتبت: هل انت فلسطيني من ابناء الضفة الغربية ؟ ،صل ان يمد الله في عمرك كي تتمكن من رؤية القدس، فسلطات الاحتلال تسمح فقط للرجال الذين تزيد اعمارهم عن ٥٠ بعبور الحواجز العسكرية. اما ان كنت من قطاع غزة، فصل ان يرفع الحصار عنه يوما. هناك جيل من الفلسطينيين لم يدخل القدس ولم يرها في حياته.
العالم العربي يودع شيرين أبو عاقلة:
صرخات أصدقاء شيرين علت في مكان قتلها، وفي المستشفى، وبشوارع فلسطين، وعلى مواقع التواصل الإجتماعي الذي تحول لرسائل رثاء، وحزن، ووداع لشيرين من صحفيين عرب، ونشطاء سياسيين، ومن الجمهور العربي.
«شفنا معها الاحتلال عن قرب وعيننا بعينه.. اغتيالها صدمة.. شكرًا شيرين على عمر من الدقة، الشجاعة، الثقة، والإلهام. منك تعلمنا أن البطولة فعل هادئ لا يتطلب النجومية وإنما الصبر».. هكذا رثب الصحافية اللبنانية سحر مندور زميلتها أبو عاقلة.
وكتب الصحافي أحمد عمر: «شيرين واحدة من أشطر وأنبل الصحفيين في فلسطين، استشهدت وهى بتعمل شغلها وهى لابسة واقي الرصاص اللي بيقول أنها صحفية، اشتهدت بعد ما خدت رصاصة في رأسها».
وعلق عبد الرحمن دياب: «رحم الله كل ضحية بريئة ماتت على يد الكيان المحتل».
وعلق حساب باسم خليفة الهنائي: «لا تموت الكلمة، ولا يهون الكفاح، ومن مات دون وطنه مات شهيدًا. يرحل المقتول، ويرحل القاتل، ولكن الأقصى باقٍ في دم كل الشرفاء، حتى قيام الساعة، الرحمة لشيرين».
وداعًا شيرين أبو عاقلة:
المشهد الأخير لشيرين كان وهي محمولة على أكتاف الأصدقاء، ملفوفة بعلم فلسطين وسترة الصحافة، يودعها الناس ويشتاقون من الآن لسماع «شيرين أبو عاقلة، الجزيرة، القدس المحتلة».








